على مدار العشرين عام الماضية عملت في قضايا تمكين المرأة من خلال الاتحاد النسائي العام في دولة الإمارات العربية المتحدة. وأذكر تماما عندما بُلغت بقرار انتدابي للعمل في هذه المؤسسة التي لم أكن قد سمعت عنها من قبل، في ذلك الوقت شعرت بالغبن وعدم الرضا بالقرار الذي غير من مسار حياتي المهنية بشكل جذري؛ حيث كنت خريجة كليه الاقتصاد من جامعة الإمارات بتقدير جيد جدا مرتفع وكنت أخيرا قد التحقت بالوظيفة التي حلمت بها والمتمثلة في باحثة اقتصادية تتولى رئاسة قسم الدراسات السكانية وسوق العمل في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بعد التقديم عليها أكثر من ستة مرات وكنت في ذلك الحين في بداية مشوار تأسيس مؤسستي الاستشارية المتخصصة في الاستشارات الاقتصادية والإدارية والتدريب
حاولت كثيرا الاعتراض على قرار الانتداب ولكن دون جدوى وكان قرار التطبيق فوري، فحاولت اقناع نفسي بأنه انتداب مؤقت لمدة عام وبالتأكيد بأنني سأعمل في مجال البحوث الاقتصادية ذات العلاقة بالمرأة، ولكن فوجئت بأنني كلفت كمساعدة لمديرة الاتحاد النسائي العام لشؤون الجمعيات واللجان والأنشطة التي لم يكن لدي أدنى فكرة عن طبيعة هذه المهمة، والأمر الذي زاد من صعوبة هذه المهمة أنه كان ضمن فريق العمل في ذلك الحين من يرون أنفسهن أحق بالتكليف بحكم خبراتهن العملية التراكمية في المؤسسة
لقد كان قرار الانتداب نقلة نوعية وجذرية لمساري المهني؛ حيث انتقلت من العمل في مؤسسة يغلب عليها الطابع الذكوري إلى مؤسسة نسائية، ومن مؤسسة تعتمد على المناهج البحث العلمي في إدارة شؤونها وتتبع نظام شبه عسكري في ذلك الوقت، إلى مؤسسة تشق طريقها في التحول من مؤسسة تقوم على العمل التطوعي إلى مؤسسة تسعى إلى وضع أول استراتيجية عمل ممنهجة لتمكين المرأة على إثر توصيات مؤتمر بجين عام 1995، ومن مؤسسة تعتمد على الأنظمة واللوائح الإدارية المقننة في تنظيم العلاقات بين المستويات الإدارية إلى مؤسسة مازالت تشق طريقها في هذا المجال ومقاومة التغيير كانت فيها قوية. كل هذه التحديات وضعتني أمام مسؤولية كبيرة؛ كيف لي أن أقوم بهذه المهمة الصعبة التي حملني فيها رؤسائي مسؤولية تمثيل مؤسستي خير تمثيل خلال فترة الانتداب؛ خاصة أنني قد شرفت بهذا القرار من سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام حفظها الله التي كانت تسعى جاهدة في ذلك الوقت إلى استقطاب الكوادر الوطنية التي من شأنها أن تسهم في عمل نقلة نوعية في طبيعة عمل المؤسسة، كما أنني شرفت بقرار التكليف بالانتداب من قبل سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله باعتباره الرئيس الفخري لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. شعرت بحجم المسؤولية التي وقعت على عاتقي وقررت أن أتقبل الواقع والتحدي مستعينة بالتوفيق من الله وبالخبرات العلمية فيما يتعلق بالنظريات الإدارية والاقتصادية والخبرات العملية التي اكتسبتها من مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية رغم قصر فترة عملي فيها التي لم تتجاوز الخمس سنوات إلاّ أنني اكتسبت منها العديد من المهارات التي قمت بتطويرها والبناء عليها لاحقا.
عندما أقف اليوم واستذكر شريط الذكريات في مشوار العمر استدرك وأزداد قناعة أن بأقدار الله تحمل في طياتها الخير الكثير الذي قد لا يستوعبها عقلنا المحدود في حينها. إن تلك النقلة النوعية التي اعتقدتُ بأنها نهاية مشواري المهني الذي كنت أحلم به، فتحت لي آفاق جديدة في عالم لم أتخيل يوما أنه سيصبح شغفي الذي يدفعني إلى تجاوز أي تحديات تواجهني من أجل تحقيق رسالتي في الحياة.
استشعرت مع الأيام الفرق بين أن تساهم في إعداد الدراسات الاستراتيجية التي تدعم عملية اتخاذ القرار وبين أن ترى ترجمة ما تعده من دراسات استراتيجية وأثرها على أرض الواقع عندما تسهم في صياغة تشريع أو سياسة أو استراتيجية تغير مسار أجيال، واستشعرت الفرق بين العمل المكتبي الروتيني وبين العمل المجتمعي بروح العطاء والإيمان بأن ما تغرسه اليوم سيرسم خارطة طريق لثقافة مجتمعية جديدة.
ولعل ما أريد أن اختم به خاطرتي هذه هي تلك الرسالة التي تعلمتها من مدرسة الحياة والتي مفادها أنه عندما تتقبل واقعك عبر معرفة معطيات حياتك الجديدة وتؤمن يقينا بأن أمر المؤمن كله خير سيلهمك الله وسيخر لك الأخيار من عباده لمعاونتك، فقط عليك أن تبحث عن الجوانب الإيجابية في كل تحدي فالتحديات هي سنة الحياة، ولكن العاقل منّا من يختار طريقة التعاطي معها بحكمة ليحولها إلى فرص، ففي التجربتين المهنيتين إضافة إلى تجربة العمل الخاص هناك العديد من الدروس والعبر التي ساهمت في تشكيل ما أنا عليه الآن فرغم الصعوبات والإخفاقات التي حملتها أحيانا إلاّ أنها حملت في طياتها مهارات حياتية مهمة. ومن بين المهارات الحياتية التي أجدها ضرورية للفرد مهما اختلف واقعه هي مهارة الذكاء العاطفي التي تعزز من قدرة المرء في التعامل مع الأنماط الشخصية المختلفة وهذه المهارة لا تصقل إلاّ من خلال المواقف الحياتية التي نمر بها على الصعيد الشخصي والمهني، فهنيئا لمن تمكّن من تطوير هذه المهارة لأنها من المداخل الهامة إلى السلام الداخلي.
♥️ مقال جدا ملهم ورائع